العلوم الانسانية
2 مشترك
صفحة 1 من اصل 1
العلوم الانسانية
بداية:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قد يحلو للبعض أن يدعي: أن العلوم الإنسانية لدى المسلمين، لا يمكن اعتبارها علوماً بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنها محض تعاليم لابد من قبولها، والتسليم بها، دون أن تخضع للمناقشة، ودون أن يكون للتجربة الحسية دور في معرفة غثها من سمينها، وتمييز صحيحها من سقيمنها.
ونقول:
إن هذا الكلام ليس له قيمة علمية، ولا يستند إلى ركن وثيق، وذلك لأن هذه العلوم، وإن كانت لدى المسلمين، ليست على حد علم الفيزياء أو الرياضيات مثلاً، بحكم ما لها من طبيعة خاصة، ولكنها لا تقل عنهما من حيث قوة اعتبارها، وقيمتها العلمية، وإمكان الاعتماد على ما رسم فيها من ضوابط، وقرر من قوانين.
وذلك لأن العلوم الإنسانية – كما هو الظاهر من اسمها – إنما تعالج قضايا الإنسان الفرد منه والجماعة وتتدخل في بناء شخصيته الإنسانية والاجتماعية، وتساهم في رفع مستواه، وتذليل العقبات أمامه، وحل المشكلات التي تعترض طريقه في مسيرته الحياتية التكاملية.
فإذا كان مصدر المعرفة في هذه العلوم هو الوحي الذي ينتهي إلى الله سبحانه، خالق كل شيء ومدبره، والمطلع على حقيقة الإنسان، ثم على كل الحقائق والدقائق في هذا الكون المحيط به وهو أعرف من كل أحد بخصوصياته، ومزاياه، وبكل علاقاته وارتباطاته بما ومن في الوجود إذا كان كذلك، فإن هذه العلوم الإنسانية الصادرة منه وعنه تصبح هي قادرة على تقديم التفسيرات الحقيقية لكل ظاهرة، ولكل حالة، ثم تقديم الحلول والضوابط الدقيقة والصحيحة لكل مشكلة، ولكل حركة مهما كانت.
وعلى هذا الأساس، فإن تلك العلوم التي تعتمد في رسم ضوابطها، وتقديم نظرياتها أسلوب التجربة الحسية، ثم الملاحظة والمقارنة، التي توجب من خلال تراكم الاحتمالات فيها درجة من الظن، الذي قد يرتقي أحياناً إلى الاطمئنان المهدد بالزوال باستمرار، تبعاً لتقدم العلم، وتوفر وسائله، واكتشاف المزيد من الحالات، ذات الخصوصيات المتميزة – نعم إن هذه العلوم – تصبح في مهب الريح، حينما يتطرق الشك إلى معظم ما تقدمه من ضوابط وحلول، وحين تصبح عاجزة عن الإسهام في ترسيم صورة واقعية لحاضر الإنسان، الأمر الذي يعين أنها أعظم فشلاً وأكثر عجزاً عن رسم صورة لماضيه، والتخطيط لمستقبله بصورة دقيقة وصحيحة.
العقائد والحياة:
ونحن إذا رجعنا إلى العلوم الإنسانية الإسلامية من أجل تحديد العلوم التي لها أولوية التقدم في مجال البحث والعناية، حيث لابد من تحديد هذه الأولويات، لسببٍ أو لآخر، فإننا نجد: أن الشأن العقائدي يقف في أعلى الهرم في هذا المجال، وذلك لأن الأمور العقائدية لا تختص بإنسان دون إنسان، ولا بفريق من الناس دون فريق، وإنما هي شأن يخص كل فردٍ فردٍ من بني الإنسان، ولا يمكن لأحدٍ أن يدعي تفرده في ذلك، أو أوليته على غيره فيه.
ومن جهة أخرى: إن الأمور العقائدية ليست محض حقائق علمية جافة، ولا مجرد معادلات تشبه المعادلات الرياضية، أو الفيزيائية، أو غيرها، يمكن لكل أحد أن يحتفظ بها في ذاكرته، أو يودعها في كتاب، أو في آله التسجيل، أو في الكمبيوتر ليرجع إليها، ويستفيد منها، وقت الحاجة.
كما انها ليست مجرد حالة فكرية، أو تصورية خالصة، ومنفصلة عن سائر شؤون الإنسان وحالاته.
وإنما هي شأن حياتي عملي له حساسيته المتناهية وله صفة الشمولية أيضاً حيث أنه يمس شخصية كل فردٍ فردٍ من الناس وخصائصه ويلامس وجدانه، ويتصل بمشاعره، وعواطفه، ثم هو ينعكس على صعيد الواقع، طاقة جبارة وموقفاً رسالياً، وحركة وسلوكاً رائداً سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الجماعة.
ما نريده:
وهذا الذي ذكرناه من الشمولية والحساسية المتناهية يحتم علينا التعرض للشأن العقائدي على أنه علم ينبض بالحياة، ويزخر بالحركة ويتصل بشخصية الإنسان بكل أبعادها، ومختلف مكوناتها، ثم على ما تتعاطاه وتتعامل معه، وتتصل به، أو يتصل بها، من قريب، أو من بعيد.
فما نريده إذن.. هو أن نبحث عن تلك العقائد التي تربط الإنسان بكل ما حوله، ليستفيد منه في مجال تغذية فكره، ووعيه، ومشاعره، وعواطفه، ثم في مجال تعامله، وحركته وسلوكه، ومواقفه.
عناصر لابد من توفرها:
وما تقدم يحتم علينا التركيز على الأمور التالية:
الأول: أن نطرح المفاهيم العقائدية، وكل العلوم الإنسانية، بطريقة تجعلها مفيدة في بناء شخصية الإنسان بكل أبعادها، وحالاتها، وخصائصها، ثم توجهاتها وطموحاتها، ولينعكس ذلك ـ من ثم ـ على حياته بكل ما لها من شؤون، وما يتصل بها أو تتصل وتلتقي به ومعه. ولتكن شخصيته في مكوناتها وفي صفاتها رسالية رائدة، وليكون للآخرين من ثم أمثولة، وأسوة وقدوة.
وبدون ذلك، بأن كانت دراسة هذه العلوم على حد دراسة علم الرياضيات مثلاً، فإن هذا الإنسان حتى وهو في قمة نشاطه العلمي، ويكتشف المزيد من الحقائق والدقائق، لسوف يبحث عن مكونات شخصيته الإنسانية في أمور عفوية، وغير مدروسة، ولا متناسقة، ولا هي مستندة إلى ركن وثيق من دليل أو برهان، وتصبح شخصيته التقاطية من هنا وهناك، مما يصادفه من حالات، ويواجهه من أزمات ومشكلات، ومما يمر به من أفكار ومفاهيم وعادات، في البيت، وفي الشارع، وفي المدرسة، ومن خلال صداقاته، وقراءاته، ومشاهداته.
الثاني: إعادة قراءتنا للنصوص القرآنية، وللروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن الأئمة المعصومين عليهم السلام، بنظرة جديدة، وعقلية جديدة، وبطريقة علمية جديدة أيضاً، تنسجم مع التوجهات، والدوافع، والأهداف العامة، التي ألمحنا إليها آنفاً.
وذلك لأن المشاهد في قراءاتنا الفعلية للنصوص ـ أن الأكثرين من العلماء والمحققين يعملون على حشد أكبر قدرٍ ممكن من النصوص، لتفهم بطريقة معينة، ومن زاوية خاصة ومحدودة، بحسب ما يريدون التدليل عليه، وتأييده أو الإزراء عليه وتفنيده، من دون أن يتعرضوا لسائر ما تتعرض له، أو ترمي إليه.
فهم إنما يعالجون قضايا تهمهم، ويتعرضون للبحث في مجالات، لا يعرفها ولا يدركها إلا أقل القليل من الناس، الذين نهجوا نهجهم، ونسجوا على منوالهم.
الثالث: إنه ليس من الضروري أن نصرف الكثير من الوقت والجهد في البحث عن فرق بادت، وأقاويل بان زيفها وخطلها، وكثير منها اشبه ما يكون بالتخرصات، والأوهام، ولم يبق ثمة من يؤمن بها، أو يعيرها أدنى اهتمام.
كما أنها لا تمس واقع الناس، ولا تتصل بحياتهم أو لا تعالج أياً من مشاكلهم، التي يعانون منها.
في الشكل والمضمون:
وبعد الوصول إلى الأهداف المشار إليها آنفاً، وتحقيق النتائج المتوخاة على الصعيد الإعدادي، فإنه لابد في المرحلة التالية، من ملاحظة الضوابط الصحيحة في مجال العرض سواء فيما يرتبط بالشكل، أو فيما يتعلق بالمضمون، فأما بالنسبة لـ:
الأمر الأول: وهو ما يرتبط بالشكل، فإنه لابد من تقديم حقائق العقيدة باللغة التي يفهمونها، بكل فئاتهم وطبقاتهم، وعلى اختلاف مستوياتهم، وهي لغة القرآن، وبتعبير أوضح: لغة الحياة.
وليس باللغة التي يعلمها إلا طبقة من الناس، التي اتخذت لنفسها لغة خاصة بها، لها اصطلاحاتها المعينة التي تتعامل بها.
ومن هنا.. فإن التعرف على أسلوب القرآن في طرح القضايا العقائدية، والاستدلال عليها سواء في مجال الإقناع والتحدي، أو في مجال تربية الناس عليها. يقع على رأس الهرم في سلم الأولويات.
فلابد إذن من بذل الجهد في استكشاف الطريقة القرآنية في إيصال المفهوم القرآني إلى الناس، وربطهم به، ليصبح طاقة جبارة بزخر بها كيان الإنسان المسلم، تذل لها الصعاب، وتصنع ما هو أشبه بالمعجزات.
ولعل أول ملاحظة يمكن تسجيلها في هذا السياق هي: أن القرآن يعتمد أسلوب إرجاع الإنسان إلى فطرته، ومخاطبة وجدانه، وإثارة ضميره من خلال تحويل الشأن العقائدي إلى شأن حياتي واقعي، يلامس كل حركة الإنسان، ويتصل بكل إهتماماته الأساسية، وليتحول الشأن العقائدي من حالة محض فكرية وتصورية، ومعادلة رياضية إلى حالة وجدانية وضميرية، ومن مقتضيات الفطرة وشؤونها، ومن الضرورات الحياتية بالدرجة الأولى.
وأما بالنسبة إلى الأمر الثاني: وهو ما يرتبط بالمضمون، فقد اتضح الأمر فيه مما ذكرناه آنفاً حيث إن ما يهمنا البحث عنه يقع على قسمين:
أحدهما: هو تلك الحقائق والدقائق العالية، التي تهم صنفاً خاصاً من الناس يرمي إلى التعمق في البحوث العقائدية، والغور في أعماقها، للوصول إلى الكنوز الخفية، والحقائق المكنونة.
وهذا الصنف من البحوث ومن الباحثين، مما لا يمكن الاستغناء عنه وعنهم بالنسبة لأمة تريد أن تثري فكرها، وتؤكد أصالتها، مادام أن لهؤلاء الثلة الدور الرئيس في توجيه حركة الفكر على مستوى الكوادر الفاعلة، التي تتولى مهمة التوجيه المباشر والفاعل على أرض الواقع في الأمة، فلابد من توفير الإمكانات الكافية لهؤلاء ليستمروا في بحوثهم وفي تحقيقاتهم بصورة مرضية وفاعلة.
الثاني: هناك معان عقائدية يفترض بالناس كل الناس أن يعيشوها، ويعوها، ويتفاعلوا معها، لتؤثر من ثم في حياتهم العملية، وفي كل شؤونهم وحالاتهم.
وهي معانٍ لا تدخل في نطاق اهتمامات الصنف الأول بصورة أساسية، ولا يوليها كبيرة عناية، مادام أنه قد اتجه في فكره وفي بحوثه إلى نواح لا تلتقي ولا تنسجم معها كثيراً.
وهذا القسم هو الذي لازال في مرحلة الصفر، وهو بحاجة ماسة إلى مزيد من الجهد، ومزيد من الوقت ومزيد من القدرات لإعطائه دفعة إلى الأمام فإنه الأكثر مساساً بحياة الناس، والأكثر تأثيراً على مصيرهم ومسقبلهم. ومن ثم فإنه هو الذي يعنيهم ويهمهم أكثر من أي شيء آخر. ولأجل أن نخرج من نطاق النظرية فإننا نشير إلى مثال تطبيقي قرآني، وآخر تاريخي.
مثال تطبيقي قرآني:
فإذا رجعنا إلى القرآن الكريم، فإننا نجد فيه عشرات بل مئات الشواهد على ما نقول فلا مجال لنا هنا إلا للاكتفاء بعرض أحدها، وهو التالي:
قال الله سبحانه في كتابه الكريم:
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
فنجد:
1 ـ أن هذه الآيات تطلب من الذي توجه له الخطاب: أن ينظر إلى أسلوبها في معالجة الشأن العقائدي: أنظر كيف نصرف الآيات: ولاشك في أن هذا الطلب إنما يهدف إلى الحث على اتخاذ ذلك طريقة ومنطلقاً في عملنا التربوي في هذا المجال حيث إنه يريد منا أن نتعلم كيفية إيصال المفاهيم العقائدية إلى القلوب، وكيفية فتح الأبصار، والأسماع والعقول عليها.
2 ـ إنها قد ربطت الشأن العقائدي بالشأن الحياتي، الذي يهم الإنسان ويعنيه أكثر من أي شيء آخر وقد ذكرتهم بأهمية السكون للإنسان وأهمية الضياء له، كما أنها قد ركزت على تذكير الإنسان بانه يعجز عن مواجهة امور لا يملك المعرفة ولا القدرات الكافية، التي تمكنه من السيطرة عليها ومواجهتها.
وبأهمية الضوابط التي تهيمن على المجتمع الإنساني، وتفرض عليه التعاون، وتمنعه من التعدي، الأمر الذي لولاه لم يمكنه أن يرسم صورة واضحة لمسيرته في الحياة، ولا لمستقبله ومصيره من الأساس.
3 ـ إن هذه الآيات قد ركزت على الأمور الثلاثة التالية:
ألف: الفقه والتعقل والفهم: لعلهم يفقهون.
ب: السمع: أفلا تسمعون ؟
ج: البصر: أفلا تبصرون ؟
وقد ركزت آيات أخرى على هذه الثلاثة أيضاً، مثل قوله تعالى:
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وقوله تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وما نريد التذكير به هنا هو: أنه تعالى في هذه الآية قد قدم فقه القلوب على بصر الأعين، وسماع الآذان، وفي ذلك الماح – على ما يظهر – إلى أن إدراك الأمور العقائدية، إنما هو بالدرجة الأولى من مهمات ووظائف القلوب، التي تفقه الأمور، إذا تفكرت فيها، حينما تكون من شؤون العقل ومن سنخه.
ولكن إدراكها لا ينحصر بذلك، فلو أن الإنسان لم يرد أن يجهد نفسه في التفكير، وترتيب القضايا، والانتهاء إلى النتائج بالتأمل العقلي، وفقه القلب فإن ثمة وسائل أخرى يمكن بواسطتها أيضاً الوصول إلى تلك الحقائق العقائدية. وذلك مثل السمع والبصر، وغير ذلك من الوسائل التي يمكن بواسطتها اكتساب الأشياء، وإيصالها إلى القوة العاقلة لتتصرف فيها، وتستفيد منها في مجال الفكر والاستنتاج، حيث يكون ثمة ضرورة لإثراء الفكر بالعينات بما لها من وجود عيني في مراحل التحقق.
مثال تطبيقي تاريخي:
وإذا رجعنا إلى التاريخ، فإننا نجد فيه أيضاً ما يفيد في تأييد وتاكيد ذلك، حيث إننا حينما نعالج موضوعاً عقائدياً، كموضوع "المعجزة" مثلاً.
فإننا إنما نبحث فيها من جهات محددة، قد لا نجد الفرصة لتجاوزها إلى غيرها، فنبحث مثلاً حول كونها خرقاً للنظام الكوفي أم لا، وحول كونها تختلف عن كرامات الأولياء، وما يصدر عن بعض المرتاضين، أم لا تختلف، وغير ذلك من بحوث يجدها المراجع للكتب الباحثة في هذا الاتجاه.
ولكننا لا نجدهم يتعرضون للإجابة على أبسط وأول سؤال يرد في موضوع المعجزة، ألا وهو التالي:
لماذا يؤمن البعض بالنبي، من دون أن يطلبوا منه معجزة يظهرها لهم مثل علي، وخديجة، وأبي طالب، وجعفر، وأبي ذر، وغيرهم. بل إن بعضهم قد آمن به (ص) في اليوم التالي لبعثته ولكن آخرين لا يؤمنون ـ لو آمنوا ـ إلا بعد أن يطلبوا منه إظهار المعجزات. وقد ضرب قوم موسى الرقم القياسي في هذا المجال.
أضف إلى ذلك: أننا نجد أن إيمان أولئك الذين يؤمنون بلا طلب المعجزة قد جاء أقوى، وأعمق، وأصفى، من إيمان أولئك الذين هم من الفريق الآخر الذين يكون إيمانهم عبارة عن استسلام ورضوخ، وعجز أمام الأمر الواقع فيما يظهر.
وفي جانب آخر لهذا السؤال، إننا نلاحظ: أن علياً أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يحارب الخوارج يكثر من الإخبارات الغيبية بصورة ملفتة للنظر، أما في حربي الجمل وصفين، وسواهما، فقد كان ذلك منه بنسبة أقل كما يظهر بالمراجعة وفي مقام الإجابة على هذا التساؤل لابد من الإلماح إلى حقيقة لها دورها في توضيح سبب هذا الإختلاف الظاهر، وهي:
أنه حين تعمى القلوب وتجعل في قمقم وترفض التفكر في الحقائق الصافية، وتصم الآذان عن سماع صوت الحق، وتعمى الأبصار عن النظر إلى الآيات الباهرة والحقائق الظاهرة، فلا يبقى مجال لإيصال صدى الحق إلى القلب، والحصول على حالة الإذعان، والتخلي عن موقف المعاند والرافض في خط المواجهة للرسالة الإلهية إلا بأحداث صدمه قوية بواسطة ما عرف بـ "المعجزة" من أجل إحداث فجوة، أو فتح نافذة تطل على داخل الإنسان، وتنفذ إلى قلبه، وعقله، ووجدانه فيكون ثم الإذعان، والقبول، والتسليم، والبخوع للحق.
وقد لا تُحدِث تلك الصدمة شيئاً، حيث أن قلوبهم قد اصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، فيصبح الإيمان ـ والحالة هذه ـ مجرد استسلام ورضوخ، واستئسار لا أكثر.
ومما تقدم تتضح الإجابة على موضوع الاخبارات الغيبية لأمير المؤمنين (ع) في حربه للخوارج. فإن الناس كانوا حينئذٍ، يعانون من الجهل الذريع، واتباع الهوى. بعد أن قتل أماثلهم وبقي أراذلهم[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] وفَقَد عليه السلام في حربي الجمل وصفين الخلّص من اصحابه، الذين كان يتلهف عليهم[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] حتى لقد قال عليه السلام لأهل العراق في نهاية حرب صفين، عن الأشتر رحمه الله:
"ليت فيكم مثله اثنان، ليت فيكم مثله واحد[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]".
كما ان الناس إنما يحاربون إخوانهم وأبناءهم، الذين كانوا يتظاهرون بالعبادة والزهادة، مع رفعهم لشعارات براقة وخادعة، من شأنها أن تستخف عقول الناس الذين لم يستضيئوا بنور العلم، كما استخف فرعون قومه ـ نتيجة لجهلهم ـ فقلل من وزن عقولهم، فاطاعوه حتى عبدوه، وكما يزين الشيطان القبيح للإنسان ويظهره له بصورة الحسن، ويعده ويمنيه حتى يوقعه فيه، ولو كان لديه إثارة من علم لعرف الزائف من غيره، ولميز الحسن من القبيح، ولعرف الشعار وخلفيات الشعار، ولعرف الحق منه من الباطل.
فكان لابد من مواجهة حالة التردد والشك والصدود عن الحق بأسلوب إحداث الهزة الوجدانية والضميرية، اعتماداً على المنطلقات العامة في ما يرتبط بالإيمان بالغيب. هذه الصدمات التي ظهرت على شكل إخبارات غيبية يشاهد الناس تحققها بأم أعينهم.
ولكن من الواضح: أن هذه الصدمات لن يدوم أثرها طويلاً، فلابد من ملاحقتها بالتوعية والتثقيف وبث المعرفة في الناس، ليكون ذلك ضمانة لبقاء القناعات، وتجذيرها في عقل وفكر ووجدان الإنسان، وقد رأينا أن بني إسرائيل لم تجف أقدامهم من ماء البحر الذين مشوا عليه بصورة إعجازية حتى قالوا لموسى وقد رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
هذا في جانب..
وفي الجانب الآخر، وهو إيمان علي، وجعفر، وخديجة، وابي طالب، وأبي ذر، وأمثال هؤلاء، الذين لا يمكن، اعتبارهم في مصاف الناس العاديين، بل هم من الطراز الأول من ناحية الذكاء والوعي ودقة الملاحظة. فإن إيمان هؤلاء إنما هو نور الحق والحقيقة الباهر، الذي يشرق في القلب، ويشع في كيان الإنسان، وفي روحه، وهو أيضاً حقيقة الحياة، تنبعث بكل حيويتها وصفائها، لتغمر وجود الإنسان، وتتفاعل مع كل ذرة فيه ؛ قال تعالى:
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وقال: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
والآيات التي تؤكد على هذا المعنى للإيمان كثيرة جداً.
والقرآن بأساليبه الفطرية والوجدانية: ثم بانتقاله بالشأن العقائدي، من حالة الركود، والتعطيل، والجمود، ليصبح أمراً حياتياً، أو أساسياً ومصيرياً، لابد للإنسان من أن يوليه أقصى درجات العناية والاهتمام ـ إن القرآن حين فعل ذلك، فإنه يكون قد جعل الأبصار والأسماع، والقلوب، تتفتح لتستقبل ذلك النور، وليغمرها بلألائه، ويشع عليها منه ما بهر، ويستأثر منها بما بطن فضلاً عما بدا وظهر.
وليكون ذلك سبباً في ان تنبض الحياة، ويغمرها الندى والعطاء، ويعمرها الإيمان والهدى.
التربية والتعليم توأمان:
وإذا أردنا أن نتحدث عن همومنا ومشاكلنا التي نعيشها فعلاً، فإننا نجد أنه رغم السلبيات الكثيرة التي نلاحظها في حوزاتنا الدينية العلمية، في قم المشرفة، وفي النجف الأشرف، وغيرهما ورغم أننا نفقد فيها التربية العقائدية، على النحو الذي لمسنا ضرورته فيما سبق من مطالب، وهي مستغرقة في بحوثها بالطريقة المعهودة والمألوفة لنا نعم.. رغم ذلك، فإننا نجد فيها إيجابية هامة جداً، نهيب بكل الذين هم في موقع المسؤولية أن يعملوا على نقلها إلى سائر المؤسسات العلمية، ألا وهي أنها قد نجحت إلى حدٍ كبير في تربية الإنسان في الإنسانية إلى جانب منجزاتها على صعيد بناء شخصيته العلمية والثقافية. ونجاحها في علم الفقه والتفسير، والفلسفة، والمنطق، والأصول وغير ذلك.
فكما أنها تقدم للأمة الرجل الفقيه، العالم الفيلسوف، والمؤرخ الخ.. فإنها ايضاً تقدمه إنساناً قد تربى تربية صالحة، جعلته في موقع يؤهله لأن يكون أمام جماعة، أو قاضياً، أو ما إلى ذلك، حيث ساعدته على أن يتحلى بالمواصفات التي تجعله الإنسان الثقة، العدل، الذي يتحلى بالأخلاق الفاضلة، والصفات والمزايا الحميدة، وبالعدالة والتقوى.
وهذا بالذات هو ما نطلبه بإصرار شديد من سائر المؤسسات العلمية، والتجمعات والمجتمعات الفكرية والثقافية، وعلى رأسها المدارسة العامة والجامعات. ولاسيما من يتصدى منها لتدريس العلوم الإنسانية.
حيث لابد لهم من أن يولوا إنسانية الإنسان عناية خاصة، ليتخرج الطالب في نهاية الأمر عالماً وإنساناً في آن واحد، يتحلى بالميزات الإلهية، وبالكمالات والفضائل، على أساس صحيح وسليم، فيطبع بها شخصيته وروحه وسلوكه، وينطبع به الآخرون أيضاً ولا يتركوا الطالب يلتقط خصائصه، ومفاهيمه من هنا وهناك، دونما تمحيص، أو تأمل.
وليكن النهج الذي رسمناه، هو الرائد في هذا الاتجاه، مادام أنه هو نهج القرآن، وهو نهج أصحاب الرسالات، وحملة الأمانة، من الأنبياء وأوصيائهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
هيمنة السياسات على الشأن العلمي:
وبعد.. فإن ما جرى عليه الطالب ولاسيما في المراحل الأخيرة من دراستهم، وحينما يطلب منهم تقديم رسالة التخرج، هو العمل بطريقة تجميع النصوص على شكل فيشات، ثم ترصيفها وصياغتها بحيث تتوافق مع ذوق الهيئة المشرفة وتوجهاتها، أو تنسجم مع السياسات والتوجهات الفكرية هذه أو تلك مع الأخذ بنظر الاعتبار ما ينشأ عن ذلك من تحكمات، لا مبرر لها، ولا منطق يساعدها، ولاسيما إذا كان المطلوب هو خدمة تيار فكري معين له أهدافه وطموحاته، ثم تحاشي وتجاهل، إن لم يكن توهين وتهجين ما عداه. ولكنهم يعالجون سلبيات موقفهم ذاك بما يفرضونه على الطالب من قيود وحدود تتناول الشكل والأسلوب، وقضايا جانبية أخرى، وذلك بطريقة قوية وحازمة وقاسية بحيث ينصرف هم الطالب إليها، ولا يحرص إلا عليها.
مع أن هذا النحو من العمل، لا يمكن أن يعتبر إنجازاً علمياً، ولاسيما فيما يرتبط بالعلوم الإنسانية، التي تكون عادة مطمح أنظار الطامعين، ومحط ومهوى أفئدة طلاب اللبانات وأصحاب المطامع من سياسيين وغيرهم.
فالمطلوب إذن هو إبعاد العمل والشأن العلمي عن أن يكون خاضعاً لأي اعتبار خارج إطاره العلمي والتربوي السائر باتجاه العمل الإنساني الفاضل والنبيل. مهما كان ذلك مخالفاً لسليقة هذا أو لطموحات وأهداف ذاك أو منسجماً مع هذا التيار، أو غير منسجم معه.
العلم في مجال التخطيط والتنفيذ:
نقول هذا.. لأننا ندرك أن الاستفادة من العمل العلمي في مجال التخطيط والتنفيذ ضرورة لابد منها، ولا محيص عنها، حتى على مستوى الدولة، إذا كانت تريد أن تقوم بدورها الرائد في هداية الأمة، ودعوتها للوصول إلى مدارج الكمال والسعادة في طريق واضح المعالم نحو مستقبل زاهر وبهيج، ومصير رضيٍّ، ورغيد.
ولكن من الواضح: أنه لكي يكون العمل العلمي أساساً صالحاً في مجال التخطيط والتنفيذ – فلابد له من رصيد قوي على مستوى الهيئات العلمية التي ترعاه، وتشرف عليه، وتوجهه توجيهاً صحيحاً وسليماً ودقيقاً في مجال الاستنتاج، وفي مجال الإبلاغ، وفي مجال العمل والتنفيذ، بعيداً عن أي من المؤثرات التي من شأنها ان تعطل حركته، أو تعرقلها، أو تنحرف بها عن مسارها الطبيعي القويم.
دور البواعث الفردية في الإنجاز العلمي:
وأخيراً.. فإن العمل العلمي قد بدأ يتخذ منحى مؤسساتياً وجماعياً. ونحن وإن كنا نشجع هذا المنحى، ونعتبره تطوراً إيجابياً إلى حدٍّ كبير، ولكننا لا ننسى أن من واجبنا التذكير بأن من الضروري أن يكون العمل الجماعي ممزوجاً ببواعث فردية ايضاً، لكي يمكن الإفادة من طموح الفرد، ومن حيويته، ومن خلاقيته، ولا أقل من عامل الارتباط الروحي والعاطفي بالعمل، بإنجاز على النحو الأكمل والأفضل.
وبدون ذلك، فإننا قد نجد أنفسنا في أحيان كثيرة أمام ركام هائل من النصوص، والمعلومات، من دون أن نجد لها ما يحركها في مجال الفكر، والمقارنة والاستنتاج، إلا بمستوى ضعيف وهزيل، وبطريقة غير قادرة على إثراء الفكر، وعاجزة عن تحقيق الأهداف الكبرى، التي طالما سعينا إلى تحقيقها.
وثمة مجالات ومناح كثيرة لهذا البحث، لا نرى أننا نملك الفرصة لإثارتها، فنحن نكلها إلى الزمن، فلعل وعسى، وعسى ولعل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. واتمنى لكم انكم تلقيتم معلومات قيمة وشكرا زميلكم هشام من كلية العلوم الانسانية .
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
قد يحلو للبعض أن يدعي: أن العلوم الإنسانية لدى المسلمين، لا يمكن اعتبارها علوماً بالمعنى الدقيق للكلمة، لأنها محض تعاليم لابد من قبولها، والتسليم بها، دون أن تخضع للمناقشة، ودون أن يكون للتجربة الحسية دور في معرفة غثها من سمينها، وتمييز صحيحها من سقيمنها.
ونقول:
إن هذا الكلام ليس له قيمة علمية، ولا يستند إلى ركن وثيق، وذلك لأن هذه العلوم، وإن كانت لدى المسلمين، ليست على حد علم الفيزياء أو الرياضيات مثلاً، بحكم ما لها من طبيعة خاصة، ولكنها لا تقل عنهما من حيث قوة اعتبارها، وقيمتها العلمية، وإمكان الاعتماد على ما رسم فيها من ضوابط، وقرر من قوانين.
وذلك لأن العلوم الإنسانية – كما هو الظاهر من اسمها – إنما تعالج قضايا الإنسان الفرد منه والجماعة وتتدخل في بناء شخصيته الإنسانية والاجتماعية، وتساهم في رفع مستواه، وتذليل العقبات أمامه، وحل المشكلات التي تعترض طريقه في مسيرته الحياتية التكاملية.
فإذا كان مصدر المعرفة في هذه العلوم هو الوحي الذي ينتهي إلى الله سبحانه، خالق كل شيء ومدبره، والمطلع على حقيقة الإنسان، ثم على كل الحقائق والدقائق في هذا الكون المحيط به وهو أعرف من كل أحد بخصوصياته، ومزاياه، وبكل علاقاته وارتباطاته بما ومن في الوجود إذا كان كذلك، فإن هذه العلوم الإنسانية الصادرة منه وعنه تصبح هي قادرة على تقديم التفسيرات الحقيقية لكل ظاهرة، ولكل حالة، ثم تقديم الحلول والضوابط الدقيقة والصحيحة لكل مشكلة، ولكل حركة مهما كانت.
وعلى هذا الأساس، فإن تلك العلوم التي تعتمد في رسم ضوابطها، وتقديم نظرياتها أسلوب التجربة الحسية، ثم الملاحظة والمقارنة، التي توجب من خلال تراكم الاحتمالات فيها درجة من الظن، الذي قد يرتقي أحياناً إلى الاطمئنان المهدد بالزوال باستمرار، تبعاً لتقدم العلم، وتوفر وسائله، واكتشاف المزيد من الحالات، ذات الخصوصيات المتميزة – نعم إن هذه العلوم – تصبح في مهب الريح، حينما يتطرق الشك إلى معظم ما تقدمه من ضوابط وحلول، وحين تصبح عاجزة عن الإسهام في ترسيم صورة واقعية لحاضر الإنسان، الأمر الذي يعين أنها أعظم فشلاً وأكثر عجزاً عن رسم صورة لماضيه، والتخطيط لمستقبله بصورة دقيقة وصحيحة.
العقائد والحياة:
ونحن إذا رجعنا إلى العلوم الإنسانية الإسلامية من أجل تحديد العلوم التي لها أولوية التقدم في مجال البحث والعناية، حيث لابد من تحديد هذه الأولويات، لسببٍ أو لآخر، فإننا نجد: أن الشأن العقائدي يقف في أعلى الهرم في هذا المجال، وذلك لأن الأمور العقائدية لا تختص بإنسان دون إنسان، ولا بفريق من الناس دون فريق، وإنما هي شأن يخص كل فردٍ فردٍ من بني الإنسان، ولا يمكن لأحدٍ أن يدعي تفرده في ذلك، أو أوليته على غيره فيه.
ومن جهة أخرى: إن الأمور العقائدية ليست محض حقائق علمية جافة، ولا مجرد معادلات تشبه المعادلات الرياضية، أو الفيزيائية، أو غيرها، يمكن لكل أحد أن يحتفظ بها في ذاكرته، أو يودعها في كتاب، أو في آله التسجيل، أو في الكمبيوتر ليرجع إليها، ويستفيد منها، وقت الحاجة.
كما انها ليست مجرد حالة فكرية، أو تصورية خالصة، ومنفصلة عن سائر شؤون الإنسان وحالاته.
وإنما هي شأن حياتي عملي له حساسيته المتناهية وله صفة الشمولية أيضاً حيث أنه يمس شخصية كل فردٍ فردٍ من الناس وخصائصه ويلامس وجدانه، ويتصل بمشاعره، وعواطفه، ثم هو ينعكس على صعيد الواقع، طاقة جبارة وموقفاً رسالياً، وحركة وسلوكاً رائداً سواء على مستوى الفرد، أو على مستوى الجماعة.
ما نريده:
وهذا الذي ذكرناه من الشمولية والحساسية المتناهية يحتم علينا التعرض للشأن العقائدي على أنه علم ينبض بالحياة، ويزخر بالحركة ويتصل بشخصية الإنسان بكل أبعادها، ومختلف مكوناتها، ثم على ما تتعاطاه وتتعامل معه، وتتصل به، أو يتصل بها، من قريب، أو من بعيد.
فما نريده إذن.. هو أن نبحث عن تلك العقائد التي تربط الإنسان بكل ما حوله، ليستفيد منه في مجال تغذية فكره، ووعيه، ومشاعره، وعواطفه، ثم في مجال تعامله، وحركته وسلوكه، ومواقفه.
عناصر لابد من توفرها:
وما تقدم يحتم علينا التركيز على الأمور التالية:
الأول: أن نطرح المفاهيم العقائدية، وكل العلوم الإنسانية، بطريقة تجعلها مفيدة في بناء شخصية الإنسان بكل أبعادها، وحالاتها، وخصائصها، ثم توجهاتها وطموحاتها، ولينعكس ذلك ـ من ثم ـ على حياته بكل ما لها من شؤون، وما يتصل بها أو تتصل وتلتقي به ومعه. ولتكن شخصيته في مكوناتها وفي صفاتها رسالية رائدة، وليكون للآخرين من ثم أمثولة، وأسوة وقدوة.
وبدون ذلك، بأن كانت دراسة هذه العلوم على حد دراسة علم الرياضيات مثلاً، فإن هذا الإنسان حتى وهو في قمة نشاطه العلمي، ويكتشف المزيد من الحقائق والدقائق، لسوف يبحث عن مكونات شخصيته الإنسانية في أمور عفوية، وغير مدروسة، ولا متناسقة، ولا هي مستندة إلى ركن وثيق من دليل أو برهان، وتصبح شخصيته التقاطية من هنا وهناك، مما يصادفه من حالات، ويواجهه من أزمات ومشكلات، ومما يمر به من أفكار ومفاهيم وعادات، في البيت، وفي الشارع، وفي المدرسة، ومن خلال صداقاته، وقراءاته، ومشاهداته.
الثاني: إعادة قراءتنا للنصوص القرآنية، وللروايات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وآله، وعن الأئمة المعصومين عليهم السلام، بنظرة جديدة، وعقلية جديدة، وبطريقة علمية جديدة أيضاً، تنسجم مع التوجهات، والدوافع، والأهداف العامة، التي ألمحنا إليها آنفاً.
وذلك لأن المشاهد في قراءاتنا الفعلية للنصوص ـ أن الأكثرين من العلماء والمحققين يعملون على حشد أكبر قدرٍ ممكن من النصوص، لتفهم بطريقة معينة، ومن زاوية خاصة ومحدودة، بحسب ما يريدون التدليل عليه، وتأييده أو الإزراء عليه وتفنيده، من دون أن يتعرضوا لسائر ما تتعرض له، أو ترمي إليه.
فهم إنما يعالجون قضايا تهمهم، ويتعرضون للبحث في مجالات، لا يعرفها ولا يدركها إلا أقل القليل من الناس، الذين نهجوا نهجهم، ونسجوا على منوالهم.
الثالث: إنه ليس من الضروري أن نصرف الكثير من الوقت والجهد في البحث عن فرق بادت، وأقاويل بان زيفها وخطلها، وكثير منها اشبه ما يكون بالتخرصات، والأوهام، ولم يبق ثمة من يؤمن بها، أو يعيرها أدنى اهتمام.
كما أنها لا تمس واقع الناس، ولا تتصل بحياتهم أو لا تعالج أياً من مشاكلهم، التي يعانون منها.
في الشكل والمضمون:
وبعد الوصول إلى الأهداف المشار إليها آنفاً، وتحقيق النتائج المتوخاة على الصعيد الإعدادي، فإنه لابد في المرحلة التالية، من ملاحظة الضوابط الصحيحة في مجال العرض سواء فيما يرتبط بالشكل، أو فيما يتعلق بالمضمون، فأما بالنسبة لـ:
الأمر الأول: وهو ما يرتبط بالشكل، فإنه لابد من تقديم حقائق العقيدة باللغة التي يفهمونها، بكل فئاتهم وطبقاتهم، وعلى اختلاف مستوياتهم، وهي لغة القرآن، وبتعبير أوضح: لغة الحياة.
وليس باللغة التي يعلمها إلا طبقة من الناس، التي اتخذت لنفسها لغة خاصة بها، لها اصطلاحاتها المعينة التي تتعامل بها.
ومن هنا.. فإن التعرف على أسلوب القرآن في طرح القضايا العقائدية، والاستدلال عليها سواء في مجال الإقناع والتحدي، أو في مجال تربية الناس عليها. يقع على رأس الهرم في سلم الأولويات.
فلابد إذن من بذل الجهد في استكشاف الطريقة القرآنية في إيصال المفهوم القرآني إلى الناس، وربطهم به، ليصبح طاقة جبارة بزخر بها كيان الإنسان المسلم، تذل لها الصعاب، وتصنع ما هو أشبه بالمعجزات.
ولعل أول ملاحظة يمكن تسجيلها في هذا السياق هي: أن القرآن يعتمد أسلوب إرجاع الإنسان إلى فطرته، ومخاطبة وجدانه، وإثارة ضميره من خلال تحويل الشأن العقائدي إلى شأن حياتي واقعي، يلامس كل حركة الإنسان، ويتصل بكل إهتماماته الأساسية، وليتحول الشأن العقائدي من حالة محض فكرية وتصورية، ومعادلة رياضية إلى حالة وجدانية وضميرية، ومن مقتضيات الفطرة وشؤونها، ومن الضرورات الحياتية بالدرجة الأولى.
وأما بالنسبة إلى الأمر الثاني: وهو ما يرتبط بالمضمون، فقد اتضح الأمر فيه مما ذكرناه آنفاً حيث إن ما يهمنا البحث عنه يقع على قسمين:
أحدهما: هو تلك الحقائق والدقائق العالية، التي تهم صنفاً خاصاً من الناس يرمي إلى التعمق في البحوث العقائدية، والغور في أعماقها، للوصول إلى الكنوز الخفية، والحقائق المكنونة.
وهذا الصنف من البحوث ومن الباحثين، مما لا يمكن الاستغناء عنه وعنهم بالنسبة لأمة تريد أن تثري فكرها، وتؤكد أصالتها، مادام أن لهؤلاء الثلة الدور الرئيس في توجيه حركة الفكر على مستوى الكوادر الفاعلة، التي تتولى مهمة التوجيه المباشر والفاعل على أرض الواقع في الأمة، فلابد من توفير الإمكانات الكافية لهؤلاء ليستمروا في بحوثهم وفي تحقيقاتهم بصورة مرضية وفاعلة.
الثاني: هناك معان عقائدية يفترض بالناس كل الناس أن يعيشوها، ويعوها، ويتفاعلوا معها، لتؤثر من ثم في حياتهم العملية، وفي كل شؤونهم وحالاتهم.
وهي معانٍ لا تدخل في نطاق اهتمامات الصنف الأول بصورة أساسية، ولا يوليها كبيرة عناية، مادام أنه قد اتجه في فكره وفي بحوثه إلى نواح لا تلتقي ولا تنسجم معها كثيراً.
وهذا القسم هو الذي لازال في مرحلة الصفر، وهو بحاجة ماسة إلى مزيد من الجهد، ومزيد من الوقت ومزيد من القدرات لإعطائه دفعة إلى الأمام فإنه الأكثر مساساً بحياة الناس، والأكثر تأثيراً على مصيرهم ومسقبلهم. ومن ثم فإنه هو الذي يعنيهم ويهمهم أكثر من أي شيء آخر. ولأجل أن نخرج من نطاق النظرية فإننا نشير إلى مثال تطبيقي قرآني، وآخر تاريخي.
مثال تطبيقي قرآني:
فإذا رجعنا إلى القرآن الكريم، فإننا نجد فيه عشرات بل مئات الشواهد على ما نقول فلا مجال لنا هنا إلا للاكتفاء بعرض أحدها، وهو التالي:
قال الله سبحانه في كتابه الكريم:
﴿قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ * قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وقال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
فنجد:
1 ـ أن هذه الآيات تطلب من الذي توجه له الخطاب: أن ينظر إلى أسلوبها في معالجة الشأن العقائدي: أنظر كيف نصرف الآيات: ولاشك في أن هذا الطلب إنما يهدف إلى الحث على اتخاذ ذلك طريقة ومنطلقاً في عملنا التربوي في هذا المجال حيث إنه يريد منا أن نتعلم كيفية إيصال المفاهيم العقائدية إلى القلوب، وكيفية فتح الأبصار، والأسماع والعقول عليها.
2 ـ إنها قد ربطت الشأن العقائدي بالشأن الحياتي، الذي يهم الإنسان ويعنيه أكثر من أي شيء آخر وقد ذكرتهم بأهمية السكون للإنسان وأهمية الضياء له، كما أنها قد ركزت على تذكير الإنسان بانه يعجز عن مواجهة امور لا يملك المعرفة ولا القدرات الكافية، التي تمكنه من السيطرة عليها ومواجهتها.
وبأهمية الضوابط التي تهيمن على المجتمع الإنساني، وتفرض عليه التعاون، وتمنعه من التعدي، الأمر الذي لولاه لم يمكنه أن يرسم صورة واضحة لمسيرته في الحياة، ولا لمستقبله ومصيره من الأساس.
3 ـ إن هذه الآيات قد ركزت على الأمور الثلاثة التالية:
ألف: الفقه والتعقل والفهم: لعلهم يفقهون.
ب: السمع: أفلا تسمعون ؟
ج: البصر: أفلا تبصرون ؟
وقد ركزت آيات أخرى على هذه الثلاثة أيضاً، مثل قوله تعالى:
﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وقوله تعالى: ﴿لَهُمْ قُلُوبٌ لاَ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وما نريد التذكير به هنا هو: أنه تعالى في هذه الآية قد قدم فقه القلوب على بصر الأعين، وسماع الآذان، وفي ذلك الماح – على ما يظهر – إلى أن إدراك الأمور العقائدية، إنما هو بالدرجة الأولى من مهمات ووظائف القلوب، التي تفقه الأمور، إذا تفكرت فيها، حينما تكون من شؤون العقل ومن سنخه.
ولكن إدراكها لا ينحصر بذلك، فلو أن الإنسان لم يرد أن يجهد نفسه في التفكير، وترتيب القضايا، والانتهاء إلى النتائج بالتأمل العقلي، وفقه القلب فإن ثمة وسائل أخرى يمكن بواسطتها أيضاً الوصول إلى تلك الحقائق العقائدية. وذلك مثل السمع والبصر، وغير ذلك من الوسائل التي يمكن بواسطتها اكتساب الأشياء، وإيصالها إلى القوة العاقلة لتتصرف فيها، وتستفيد منها في مجال الفكر والاستنتاج، حيث يكون ثمة ضرورة لإثراء الفكر بالعينات بما لها من وجود عيني في مراحل التحقق.
مثال تطبيقي تاريخي:
وإذا رجعنا إلى التاريخ، فإننا نجد فيه أيضاً ما يفيد في تأييد وتاكيد ذلك، حيث إننا حينما نعالج موضوعاً عقائدياً، كموضوع "المعجزة" مثلاً.
فإننا إنما نبحث فيها من جهات محددة، قد لا نجد الفرصة لتجاوزها إلى غيرها، فنبحث مثلاً حول كونها خرقاً للنظام الكوفي أم لا، وحول كونها تختلف عن كرامات الأولياء، وما يصدر عن بعض المرتاضين، أم لا تختلف، وغير ذلك من بحوث يجدها المراجع للكتب الباحثة في هذا الاتجاه.
ولكننا لا نجدهم يتعرضون للإجابة على أبسط وأول سؤال يرد في موضوع المعجزة، ألا وهو التالي:
لماذا يؤمن البعض بالنبي، من دون أن يطلبوا منه معجزة يظهرها لهم مثل علي، وخديجة، وأبي طالب، وجعفر، وأبي ذر، وغيرهم. بل إن بعضهم قد آمن به (ص) في اليوم التالي لبعثته ولكن آخرين لا يؤمنون ـ لو آمنوا ـ إلا بعد أن يطلبوا منه إظهار المعجزات. وقد ضرب قوم موسى الرقم القياسي في هذا المجال.
أضف إلى ذلك: أننا نجد أن إيمان أولئك الذين يؤمنون بلا طلب المعجزة قد جاء أقوى، وأعمق، وأصفى، من إيمان أولئك الذين هم من الفريق الآخر الذين يكون إيمانهم عبارة عن استسلام ورضوخ، وعجز أمام الأمر الواقع فيما يظهر.
وفي جانب آخر لهذا السؤال، إننا نلاحظ: أن علياً أمير المؤمنين عليه السلام، وهو يحارب الخوارج يكثر من الإخبارات الغيبية بصورة ملفتة للنظر، أما في حربي الجمل وصفين، وسواهما، فقد كان ذلك منه بنسبة أقل كما يظهر بالمراجعة وفي مقام الإجابة على هذا التساؤل لابد من الإلماح إلى حقيقة لها دورها في توضيح سبب هذا الإختلاف الظاهر، وهي:
أنه حين تعمى القلوب وتجعل في قمقم وترفض التفكر في الحقائق الصافية، وتصم الآذان عن سماع صوت الحق، وتعمى الأبصار عن النظر إلى الآيات الباهرة والحقائق الظاهرة، فلا يبقى مجال لإيصال صدى الحق إلى القلب، والحصول على حالة الإذعان، والتخلي عن موقف المعاند والرافض في خط المواجهة للرسالة الإلهية إلا بأحداث صدمه قوية بواسطة ما عرف بـ "المعجزة" من أجل إحداث فجوة، أو فتح نافذة تطل على داخل الإنسان، وتنفذ إلى قلبه، وعقله، ووجدانه فيكون ثم الإذعان، والقبول، والتسليم، والبخوع للحق.
وقد لا تُحدِث تلك الصدمة شيئاً، حيث أن قلوبهم قد اصبحت كالحجارة أو أشد قسوة، فيصبح الإيمان ـ والحالة هذه ـ مجرد استسلام ورضوخ، واستئسار لا أكثر.
ومما تقدم تتضح الإجابة على موضوع الاخبارات الغيبية لأمير المؤمنين (ع) في حربه للخوارج. فإن الناس كانوا حينئذٍ، يعانون من الجهل الذريع، واتباع الهوى. بعد أن قتل أماثلهم وبقي أراذلهم[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] وفَقَد عليه السلام في حربي الجمل وصفين الخلّص من اصحابه، الذين كان يتلهف عليهم[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] حتى لقد قال عليه السلام لأهل العراق في نهاية حرب صفين، عن الأشتر رحمه الله:
"ليت فيكم مثله اثنان، ليت فيكم مثله واحد[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]".
كما ان الناس إنما يحاربون إخوانهم وأبناءهم، الذين كانوا يتظاهرون بالعبادة والزهادة، مع رفعهم لشعارات براقة وخادعة، من شأنها أن تستخف عقول الناس الذين لم يستضيئوا بنور العلم، كما استخف فرعون قومه ـ نتيجة لجهلهم ـ فقلل من وزن عقولهم، فاطاعوه حتى عبدوه، وكما يزين الشيطان القبيح للإنسان ويظهره له بصورة الحسن، ويعده ويمنيه حتى يوقعه فيه، ولو كان لديه إثارة من علم لعرف الزائف من غيره، ولميز الحسن من القبيح، ولعرف الشعار وخلفيات الشعار، ولعرف الحق منه من الباطل.
فكان لابد من مواجهة حالة التردد والشك والصدود عن الحق بأسلوب إحداث الهزة الوجدانية والضميرية، اعتماداً على المنطلقات العامة في ما يرتبط بالإيمان بالغيب. هذه الصدمات التي ظهرت على شكل إخبارات غيبية يشاهد الناس تحققها بأم أعينهم.
ولكن من الواضح: أن هذه الصدمات لن يدوم أثرها طويلاً، فلابد من ملاحقتها بالتوعية والتثقيف وبث المعرفة في الناس، ليكون ذلك ضمانة لبقاء القناعات، وتجذيرها في عقل وفكر ووجدان الإنسان، وقد رأينا أن بني إسرائيل لم تجف أقدامهم من ماء البحر الذين مشوا عليه بصورة إعجازية حتى قالوا لموسى وقد رأوا قوماً يعكفون على أصنام لهم: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة.
هذا في جانب..
وفي الجانب الآخر، وهو إيمان علي، وجعفر، وخديجة، وابي طالب، وأبي ذر، وأمثال هؤلاء، الذين لا يمكن، اعتبارهم في مصاف الناس العاديين، بل هم من الطراز الأول من ناحية الذكاء والوعي ودقة الملاحظة. فإن إيمان هؤلاء إنما هو نور الحق والحقيقة الباهر، الذي يشرق في القلب، ويشع في كيان الإنسان، وفي روحه، وهو أيضاً حقيقة الحياة، تنبعث بكل حيويتها وصفائها، لتغمر وجود الإنسان، وتتفاعل مع كل ذرة فيه ؛ قال تعالى:
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
وقال: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط].
والآيات التي تؤكد على هذا المعنى للإيمان كثيرة جداً.
والقرآن بأساليبه الفطرية والوجدانية: ثم بانتقاله بالشأن العقائدي، من حالة الركود، والتعطيل، والجمود، ليصبح أمراً حياتياً، أو أساسياً ومصيرياً، لابد للإنسان من أن يوليه أقصى درجات العناية والاهتمام ـ إن القرآن حين فعل ذلك، فإنه يكون قد جعل الأبصار والأسماع، والقلوب، تتفتح لتستقبل ذلك النور، وليغمرها بلألائه، ويشع عليها منه ما بهر، ويستأثر منها بما بطن فضلاً عما بدا وظهر.
وليكون ذلك سبباً في ان تنبض الحياة، ويغمرها الندى والعطاء، ويعمرها الإيمان والهدى.
التربية والتعليم توأمان:
وإذا أردنا أن نتحدث عن همومنا ومشاكلنا التي نعيشها فعلاً، فإننا نجد أنه رغم السلبيات الكثيرة التي نلاحظها في حوزاتنا الدينية العلمية، في قم المشرفة، وفي النجف الأشرف، وغيرهما ورغم أننا نفقد فيها التربية العقائدية، على النحو الذي لمسنا ضرورته فيما سبق من مطالب، وهي مستغرقة في بحوثها بالطريقة المعهودة والمألوفة لنا نعم.. رغم ذلك، فإننا نجد فيها إيجابية هامة جداً، نهيب بكل الذين هم في موقع المسؤولية أن يعملوا على نقلها إلى سائر المؤسسات العلمية، ألا وهي أنها قد نجحت إلى حدٍ كبير في تربية الإنسان في الإنسانية إلى جانب منجزاتها على صعيد بناء شخصيته العلمية والثقافية. ونجاحها في علم الفقه والتفسير، والفلسفة، والمنطق، والأصول وغير ذلك.
فكما أنها تقدم للأمة الرجل الفقيه، العالم الفيلسوف، والمؤرخ الخ.. فإنها ايضاً تقدمه إنساناً قد تربى تربية صالحة، جعلته في موقع يؤهله لأن يكون أمام جماعة، أو قاضياً، أو ما إلى ذلك، حيث ساعدته على أن يتحلى بالمواصفات التي تجعله الإنسان الثقة، العدل، الذي يتحلى بالأخلاق الفاضلة، والصفات والمزايا الحميدة، وبالعدالة والتقوى.
وهذا بالذات هو ما نطلبه بإصرار شديد من سائر المؤسسات العلمية، والتجمعات والمجتمعات الفكرية والثقافية، وعلى رأسها المدارسة العامة والجامعات. ولاسيما من يتصدى منها لتدريس العلوم الإنسانية.
حيث لابد لهم من أن يولوا إنسانية الإنسان عناية خاصة، ليتخرج الطالب في نهاية الأمر عالماً وإنساناً في آن واحد، يتحلى بالميزات الإلهية، وبالكمالات والفضائل، على أساس صحيح وسليم، فيطبع بها شخصيته وروحه وسلوكه، وينطبع به الآخرون أيضاً ولا يتركوا الطالب يلتقط خصائصه، ومفاهيمه من هنا وهناك، دونما تمحيص، أو تأمل.
وليكن النهج الذي رسمناه، هو الرائد في هذا الاتجاه، مادام أنه هو نهج القرآن، وهو نهج أصحاب الرسالات، وحملة الأمانة، من الأنبياء وأوصيائهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
هيمنة السياسات على الشأن العلمي:
وبعد.. فإن ما جرى عليه الطالب ولاسيما في المراحل الأخيرة من دراستهم، وحينما يطلب منهم تقديم رسالة التخرج، هو العمل بطريقة تجميع النصوص على شكل فيشات، ثم ترصيفها وصياغتها بحيث تتوافق مع ذوق الهيئة المشرفة وتوجهاتها، أو تنسجم مع السياسات والتوجهات الفكرية هذه أو تلك مع الأخذ بنظر الاعتبار ما ينشأ عن ذلك من تحكمات، لا مبرر لها، ولا منطق يساعدها، ولاسيما إذا كان المطلوب هو خدمة تيار فكري معين له أهدافه وطموحاته، ثم تحاشي وتجاهل، إن لم يكن توهين وتهجين ما عداه. ولكنهم يعالجون سلبيات موقفهم ذاك بما يفرضونه على الطالب من قيود وحدود تتناول الشكل والأسلوب، وقضايا جانبية أخرى، وذلك بطريقة قوية وحازمة وقاسية بحيث ينصرف هم الطالب إليها، ولا يحرص إلا عليها.
مع أن هذا النحو من العمل، لا يمكن أن يعتبر إنجازاً علمياً، ولاسيما فيما يرتبط بالعلوم الإنسانية، التي تكون عادة مطمح أنظار الطامعين، ومحط ومهوى أفئدة طلاب اللبانات وأصحاب المطامع من سياسيين وغيرهم.
فالمطلوب إذن هو إبعاد العمل والشأن العلمي عن أن يكون خاضعاً لأي اعتبار خارج إطاره العلمي والتربوي السائر باتجاه العمل الإنساني الفاضل والنبيل. مهما كان ذلك مخالفاً لسليقة هذا أو لطموحات وأهداف ذاك أو منسجماً مع هذا التيار، أو غير منسجم معه.
العلم في مجال التخطيط والتنفيذ:
نقول هذا.. لأننا ندرك أن الاستفادة من العمل العلمي في مجال التخطيط والتنفيذ ضرورة لابد منها، ولا محيص عنها، حتى على مستوى الدولة، إذا كانت تريد أن تقوم بدورها الرائد في هداية الأمة، ودعوتها للوصول إلى مدارج الكمال والسعادة في طريق واضح المعالم نحو مستقبل زاهر وبهيج، ومصير رضيٍّ، ورغيد.
ولكن من الواضح: أنه لكي يكون العمل العلمي أساساً صالحاً في مجال التخطيط والتنفيذ – فلابد له من رصيد قوي على مستوى الهيئات العلمية التي ترعاه، وتشرف عليه، وتوجهه توجيهاً صحيحاً وسليماً ودقيقاً في مجال الاستنتاج، وفي مجال الإبلاغ، وفي مجال العمل والتنفيذ، بعيداً عن أي من المؤثرات التي من شأنها ان تعطل حركته، أو تعرقلها، أو تنحرف بها عن مسارها الطبيعي القويم.
دور البواعث الفردية في الإنجاز العلمي:
وأخيراً.. فإن العمل العلمي قد بدأ يتخذ منحى مؤسساتياً وجماعياً. ونحن وإن كنا نشجع هذا المنحى، ونعتبره تطوراً إيجابياً إلى حدٍّ كبير، ولكننا لا ننسى أن من واجبنا التذكير بأن من الضروري أن يكون العمل الجماعي ممزوجاً ببواعث فردية ايضاً، لكي يمكن الإفادة من طموح الفرد، ومن حيويته، ومن خلاقيته، ولا أقل من عامل الارتباط الروحي والعاطفي بالعمل، بإنجاز على النحو الأكمل والأفضل.
وبدون ذلك، فإننا قد نجد أنفسنا في أحيان كثيرة أمام ركام هائل من النصوص، والمعلومات، من دون أن نجد لها ما يحركها في مجال الفكر، والمقارنة والاستنتاج، إلا بمستوى ضعيف وهزيل، وبطريقة غير قادرة على إثراء الفكر، وعاجزة عن تحقيق الأهداف الكبرى، التي طالما سعينا إلى تحقيقها.
وثمة مجالات ومناح كثيرة لهذا البحث، لا نرى أننا نملك الفرصة لإثارتها، فنحن نكلها إلى الزمن، فلعل وعسى، وعسى ولعل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. واتمنى لكم انكم تلقيتم معلومات قيمة وشكرا زميلكم هشام من كلية العلوم الانسانية .
hicham2pac2- عضو جديد
- رسالة sms : ANA MOHTAM LIKOLI MAN YAHTAME BIMAWADHI3I AW IKTIRAHATTI AW SOWARI WACHOKRAN LE NIMERO DE PORTABLE 0775311281 THANKS HICHAM SIENCE HUMAINS IN AL HADJ LAKHDAR BATNA DAYRA RAS EL AIYOUN
الهويات :
المهن :
الاعلام :
الجنس :
عدد الرسائل : 14
نقاط التميز : 15979
تاريخ التسجيل : 26/04/2010
مواضيع مماثلة
» ماهي العلوم الانسانية
» اخبار عن كلية الاداب و العلوم الانسانية
» العلوم السايسية
» ماجستير العلوم الإسلامية
» مجالات العلوم السياسية
» اخبار عن كلية الاداب و العلوم الانسانية
» العلوم السايسية
» ماجستير العلوم الإسلامية
» مجالات العلوم السياسية
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الخميس يناير 26, 2023 4:51 pm من طرف guerna noureddine
» حضارات ماقبل التاريخ
الخميس نوفمبر 16, 2017 5:36 pm من طرف بن عامر لخضر
» واد سوف على مر الزمان ثاني اكبر معلم تاريخي فالجزائر
الخميس نوفمبر 16, 2017 5:34 pm من طرف بن عامر لخضر
» من أقطابنا لبرج الغدير : زاوية سيدي احسن بلدية غيلاسة دائرة برج الغدير
الثلاثاء نوفمبر 14, 2017 6:38 pm من طرف بن عامر لخضر
» انتشار الامازيغ
الأحد أكتوبر 22, 2017 6:40 am من طرف بن عامر لخضر
» من اقطابنا لبرج الغدير: رحلة في ذكرى 8ماي1945( بئر ميشوبأولاد سي احمد )
السبت أكتوبر 21, 2017 5:56 pm من طرف بن عامر لخضر
» برج الغدير : منارة علم بقرية الدشرة ( مسجد الحاج الشريف )
الأحد أكتوبر 08, 2017 1:09 pm من طرف بن عامر لخضر
» برج الغدير : منارة علم بقرية الدشرة ( مسجد الحاج الشريف )
الأحد أكتوبر 08, 2017 12:57 pm من طرف بن عامر لخضر
» برج الغدير : معلم أثري يكاد يندثر ( الضريح الروماني ببرج الشميسة )
الإثنين أكتوبر 02, 2017 6:42 am من طرف بن عامر لخضر
» مجموعة أطروحات دكتوراه دولة في الإقتصاد.
الجمعة مارس 31, 2017 9:25 pm من طرف yacine ha
» بعض من مؤلفات الدكتور محمد الصغير غانم
الثلاثاء مارس 21, 2017 8:42 am من طرف cherifa cherifa
» ربح المال مجانا من الانترنت
السبت فبراير 25, 2017 9:15 am من طرف mounir moon
» موسوعة كتب الطبخ
الجمعة فبراير 24, 2017 4:43 pm من طرف mounir moon
» cours 3eme année vétérinaire
الجمعة فبراير 24, 2017 4:38 pm من طرف mounir moon
» اين انتم
الإثنين فبراير 13, 2017 2:47 pm من طرف guerna noureddine